«عباس»: نفسى أنام يوم من غير ما أجوع
«عبدالعزيز»: خايف أموت وعيالى يتشردوا
الدولة تبحث ضمهم لمظلة التأمينات.. والعمال: حلم يتحقق
كُلما تجوب الشوارع تجدهم صامدين تحت لهيب الشمس، قرابة 10 ساعات من الأشغال الشاقة ينسون آدميتهم مقابل بعض الجنيهات تمكنه من العودة لمنزله «مجبور الخاطر» أمام أبنائه، أقصى أحلامهم مائدة طعام تجمعهم مع أسرهم، وتعليم الأبناء، والصحة حتى يستطيعون مواصلة الحياة ومشاقها.
يتابعون حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتوجيهاته حيال العمالة غيرالمنتظمة، وتأكيدات رئيس مجلس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، بحرص الدولة على حمايتهم ورعايتهم معلنًا عن خطة لحصر وتسجيل العمالة غير المنتظمة لتقديم الخدمات والرعاية لهم.
الأمر نفسه أكده وزير العمل، محمد جبران، حينما قال إن ثقافة الجمهورية الجديدة تسير نحو احترام المواطن وتقديم الدعم له بشكل لائق وكريم، على أن يتم توسيع قاعدة البيانات الخاصة بالعمالة غيرالمنتظمة، وكلهم أمل فى أن تتحقق هذه الوعود.
بطولات فردية يقوم كل منهم بتجسيدها يوميًا، مع دقات عقارب الساعة السادسة صباحًا يخرجون لبدء يوم شاق، ينتظرون لساعات طويلة أملًا فى أن ينادى عليهم أحد الأشخاص طالبًا العمل، منهم من يوفق فى ذلك بسرعة ومنهم من ينتظر طويلا تحت لهيب الشمس الحارقة على أمل الحصول على عمل ويومية ترحمه من العوز والسؤال.
فى شارع السودان بالمهدسين، وبعض مناطق شارع فيصل تجدهم متراصين، يحتمون من نار الشمس ببعض الكراتين على رءوسهم، وغيرهم يبللون الشيلان على رؤسهم.
بداية رحلة «الوفد» لمشاركة الكادحين يومهم الشاق كانت من شارع السودان، حيث التقينا عباس زينهم وابن عمه عبدالعزيز السيد، اللذين جاءا من سوهاج للعمل فى القاهرة.
«عباس» الذى تجاوز عمره الـ 50 عامًا لا يعرف الراحة فى سبيل استكمال رحلته مع أسرته وتربية أبنائه الثلاثة، وقال: «عندى 3 أبناء 2 منهم فى الجامعة والتالت بيكون نفسه علشان يتجوز».
يعمل «عباس» فى تكسير الأحجار والمحارة وجميع الاعمال التى تتطلب قوة بدنية، وبالرغم من أنّ عمره تجاوز الخمسين، إلا أنه يستعين بالله ليساعده على مواصلة 10 ساعات شقاء فى تكسير الطوب، فضلًا عن الانتظار تحت لهيب الشمس لساعات طويلة فى انتظار الزبون الذى يمنحه فى آخر اليوم 200 جنيه.
«نفسى أنام يوم من غير ما أجوع».. يستكمل «عباس» حديثه، ويقول إنّه كثيرا ما يتعرض للمرض ويعجز عن الراحة، بل تدفعه الظروف للخروج إلى العمل وهو مريض حتى يستطيع سد احتياجات أسرته.
يصمت الرجل قليلًا ويستكمل حديثه بنبرة حزينة، قائلًا: «بتصعب عليا نفسى أوى وأنا فى الشغل.. وساعات بدمع كمان»، كثير ما يتساءل العامل خلال جلوسه وحيدًا ويقول: هل مصيرى الشقاء حتى آخر نفس فى حياتي؟.
أبو البنات
حال عبدالعزيز حمدي، لا يختلف كثيرًا. يلخص سيناريو حياته قائلًا: «خايف أموت وعيالى يتشردوا».
يخرج «عبدالعزيز» صاحب الـ 45 عامًا من السادسة صباحًا، يتناول فى عجالة وجبة الإفطار (3 أقراص طعمية ورغفين عيش) وينتظر الزبون الذى يطلبه لممارسة نشاطه فى تكسير الحوائط، ويقضى فى هذا الشقاء قرابة 8 ساعات مقابل 200 جنيه.
«عبدالعزيز» أب لـ 3 فتيات، خريجات دبلومات فنية، 2 منهن تزوجا ويسعى الأب حاليًا لتجهيز ابنته الثالثة، يجتهد ليلًا ونهارًا لتوفير متطلبات عرسها، وقال: «من كام سنة سافرت ليبيا وجهزت اخواتها اللى اتجوزوا لكن حاليا مفيش معايا فلوس تخلينى أطلع بره».
يشير العامل إلى أن تراكم الديون عليه سبب فى عجزه عن توفير المال الكافٍ للسفر إلى ليبيا، فضلًا عن صعوبة ترك ابنته وحيدة فى المنزل، خاصة وأن زوجته متوفاة منذ سنوات.
«عبدالعزيز» الذى جاء من محافظة قنا، ويقطن فى منطقة الملكة فى فيصل، يبحث عن فرصة حقيقة لتأمين بناته وحماية نفسه من غدر الزمان، وتابع: «سنى داخل على الستين ونفسى أرتاح ولكن ما باليد حيلة مفيش معاش ولا تأمين ولا أى حاجة».
مشاعر متخبطة بين الأمل واليأس يعيشها «عبدالعزيز» فور علمه بمساعى الحكومة لتوسيع قاعدة بيانات أسماء العمالة غير المنتظمة لتوفير حياة كريمة لهم: وقال: «معقول يعنى اسمى أنا هيجى من الناس دول؟.. معقول هيجى عليا يوم أرتاح فيه فى البيت وأخد علاجى وأنا مش عايل هم بكرة والجوع؟.. معقول هحس أنى بنى آدم زى غيرى ؟».
70 سنة
تستكمل «الوفد» جولتها لمشاركة الكادحين يومهم تحت لهيب الشمس، لنجد نموذج آخر أثار انتباهنا فور رؤيته من بعيد، يجلس فى سكون، مع حرارة الشمس فلم يعد يستطيع رفع رأسه فيضعها على صندوق خشبى أمامه، وبجواره العصا التى يستند عليها.
اقتربنا منه فنجده عجوز تجاوز عمره السبعين عامًا، يعمل ماسح أحذية، جلباب رثة وجسد نحيل انهكته سنوات الشقاء على أبنائه الأربعة.
اقتربنا منه فوجدناه غارقًا فى النوم، واستيقظ مفزوعًا خوفًا من أن نكون جهة تنفيذية تابعة للمحليات، إلا أنه هدأ بعد قليل، وقال: «أؤمرنى.. لمعة ولا تنظيف بس؟»، أخبرته بطبيعة عمله، حزن قليلًا بعد أن علم أن الزبون الذى طال انتظاره لمدة 4 ساعات تحت لهيب الشمس لم يأت بعد.
عم فتحى جمال، الرجل السبعينى تحدث معنا بصوت مجهد، وقال: «والنبى يابنى أنا ما قادر اتكلم.. سيبنى أكل عيش.. فيا اللى مكفيني»، تبادلنا الحديث معه حتى عرفنا كواليس يومه، وقال إنه يعيش وحيدًا فى منزله بمنطقة بولاق الدكرور، ويعمل فى مسح الأحذية منذ سنوات طويلة، وبعد زواج أبنائه أصبحت حاجته للعمل أكثر من أى وقت آخر.
«فى الأول كان ممكن اعتمد على ابنى وأريح يوم ولا يومين».. يستكمل ماسح الأحذية حديثه ويشير إلى أنّ الحياة صعبة ومتطلباتها كبيرة ويخشى أن يطلب من ابنه مالًا حتى لا يكون حملًا عليه.
«الدنيا متعبة لوحدها وعيالى عندهم عيال.. والمصاريف تقيلة أنا أب وحاسس بيهم».. يشير العجوز إلى أنه يفضل دائمًا الاعتماد على ذاته فى المأكل والملبس بعيدًا عن اللجوء لأبنائه وتابع: «الشقة اللى عايش فيها الحمد لله إيجار قديم وقادر على مصاريفها وبالنسبة للأكل والشرب ربنا بيقوي».
ماسح الأحذية قضى قرابة 10 سنوات فى العراق، استطاع خلالها أن يزوج ابناءه، ليعود مجددًا لنشاطه فى مسح الأحذية، ويشير إلى أنّ هناك العديد من النماذج البائسة مثله يقضون ما بين 6 و10 ساعات على الرصيف حتى يستطيع توفير احتياجاته اليومية.
«اليوم الوحيد اللى بشوف فيه ولادى يوم الجمعة.. بنتجمع كلنا فى الشقة».. يشير الأب إلى أنّ زوجات أبنائه يأتون يوم الجمعة صباحًا ويعدون الغداء، ليقضوا جميعا يومًا عائليًا، وتابع: «يمكن اليوم ده اللى بيهون عليا مشاق باقى الأيام اللى بقضيها على الرصيف».
لجنة ميدانية
بالقرب من الطريق إلى ناهيا البلد، وجدنا آخر من العمالة غير المنتظمة، يسير بالعربة «الكارو» نهارًا وليلًا لتوصيل الخدمات للمنازل سواء عفش أو متطلبات أخرى.
يجوب سمير السيد، شوارع بولاق الدكرور وأرض اللواء وإمباية، عرفه الجميع بابتسامته الراضية، ظل طيلة سنوات حياته يحلم بمعاش يحميه من نار الشمس ولو يومًا واحدًا.
يومية العامل ما بين 300 و600 جنيه، يدفع منها شهريًا 1800 جنيه إيجارًا ومع فواتير المياه والكهرباء وإسطونات البوتاجاز يصبح إجمالى المتطلبات الأساسية كل شهر 2500 جنيه.
يحلم «سمير» بأن يكون ضمن العمالة غير المنتظمة التى ستضمها كشوف الحكومة، وقال: «ياريت وزارة العمل تعمل لجنة ميدانية ترصد أحوال العمالة فى المناطق الشعبية، وتبحث عننا وعن جميع العاملين غيرالمسجلين حتى الآن».
بحثنا أكثر عن الغارقين فى الشقاء، فوجدنا مجموعة من العمالة يجلسون ويتسامرون فى انتظار السيارة التى تقلهم إلى مدينة بدر، تحدثنا معهم وبلسان واحد جميعهم قالوا «اليوم اللى بيعدى بخير معانا كله رزق».
يتناول أصاحب الأيادى الشقيانة وجبة الغداء، بعدما ظلوا 4 ساعات فى انتظار زبون، حتى جاء لهم شخصًا وطلبهم جميعًا للعمل، وقال أحدهم يدعى «عرفات»، إنّه كان فاقد الأمل أن يجد عمل اليوم بعد الانتظار لأكثر من 4 ساعات متواصلة، خاصة فى ظل عدم خروج أحد من العمال الآخرين المتواجدين أمامه، وأخيرا جاء لهم أحد الأشخاص ليطلبهم جميعًا ويرسم على وجوههم البسمة، وقبل مغادرتهم قرروا تناول وجبة الغداء سويًا استعدادًا للعمل حتى منتصف الليل.
يشيرون إلى أن حلمهم يكمن فى معاش يحميهم من غدر المرض الذى يقعدهم عن العمل وحينها يعجزون عن توفير متطلبات منازلهم واحتياجات أسرهم، وقالوا جميعًا: «الراجل منا بتبقى نفسه مكسوره لو رجع البيت وجيبه فاضي».
بائع الكتب
على بعد أمتار من محطة مترو العتبة، تجده جالسًا بجوار مجموعة كتب قديمة، متكئًا على عصا حمل عليها تعبه فى ظل حرارة الشمس وعجزه عن العودة لمنزله دون بيع كتابا واحدًا، وقال صبرى خليفة، إن زمن القراءة قد انتهى، فمع عصر التكنولوجيا أصبح من السهل على الجميع قراءة أى كتاب أون لاين.
«محدش بيشترى منى إلا محبى القراءة.. اللى على قديمه».. يستكمل بائع الكتب حديثه، ويقول إن محصلة اليوم حال الرواج ما بين 150 إلى 300 جنيه بالكتير، وكثير من الأيام أعود خاوى الجيوب لا أكسب جنيهًا واحدًا.
بائع الكتب متابع جيد للأخبار، ويعلم مساعى الحكومة فى توسيع قاعدة بيانات العمالة غير المنتظمة، ولكن اليأس يسيطر عليه ويقول طول عمرى بسمع إن الحكومة بتسعى لده لكن مفيش مرة حسيت انى ممكن أكون من الناس دول ولا يكون ليا معاش وتأمين، حياتى كلها واقفة على واحد عايز يقرأ كتاب.
فن نقل الأثاث
وباستكمال جولتنا الميدانية ببعض مناطق القاهرة والجيزة، وجدنا سيارة ربع نقل، تحمل أثاث ومتاع شقة على استعداد الانطلاق ومن خلفها 2 من العمالة، يقومون بتحميل الأثاث على السيارة.
وبسؤالهما قال «عماد» و«علي» انهما متخصصان فى نقل عفش المنازل، ويشيران إلى أن الأهالى لا يثقون فى أى شخص يدعى أنه قادر على نقل أثاث المنزل، وإن هذا النشاط له أناس معينون قدرتهم على نقل الأثاث عالية وبحرفية شديدة حتى لا يتعرض الأثاث للكسر أو الخدوش.
«شيل العفش ده فن مش قصة قدرة بدنية وبس».. قالها «علي» وهو يخرج منديله ليزيل العرق الذى غطى عينيه، واستكمل حديثه قائلًا إن من ضمن الأعمال الخطرة على الفرد تحميل الأثاث على الجسد فحال التحرك بطريقة خاطئة قد يتعرض الفرد لكسر فى الضلع أو تمزق فى الأربطة وغيرها، كما حدث لغيره من العاملين فى هذا المجال الذين ليس لهم تأمين صحى مما دفع أفراد أسرته للعمل الإضافى حتى يستطيعون توفير علاجه.
نقلاً عن جريدة الوفد