الرياص – اسماء السيد – نيقوسيا : اندلعت حرب كوريا في 25 حزيران (يونيو) 1950، فهبّت الرياح الساخنة للحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، معلنةً نزاعاً سيمتدّ عقوداً ويبدّل أوجهاً كثيرة، منها الرياضة.
وبعد عامين، أقيمت ألعاب الأولمبياد الخامس عشر من 19 تموز (يوليو) حتّى 3 آب (أغسطس) في هلسنكي، المدينة التي كان مقرراً أن تستضيف دورة 1940 التي تنازلت عنها طوكيو. لذا فان المنشور الكبير الذي يرمز إلى شعار الدورة والذي كان معدّاً للمناسبة التي طوتها الحرب العالمية الثانية، “نُبش” من جديد وأُزيلت عنه الغبار.
وعلى إيقاع مشاهد هي خليط من السياسة والرياضة، شارك الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى، علماّ أن المشاركة الأخيرة لروسيا تعود إلى دورة عام 1912. وافد جديد دقّ ناقوس الخطر في وجه الهيمنة الاميركية.
وفي القرية الأولمبية ظلل علما الألعاب والاتحاد السوفياتي صورة جوزف ستالين في مقرّ البعثة السوفياتية. وكانت اللجنة الاولمبية الدولية اعترفت في أيار/مايو 1951 باللجنة الاولمبية الوطنية لاتحاد الجمهوريات السوفياتية.
وحصلت ألمانيا على “رخصتها الدولية” عبر اسم جديد هي ألمانيا الاتحادية الفدرالية (أو الغربية)، ما سيؤدّي لاحقاً للاعتراف الرياضي بألمانيا الأخرى “الديمقراطية” أو الشرقية، فأعاد الإخراج السياسي الجديد ألمانيا إلى حظيرة المنافسات.
وجمعت الولايات المتحدة 40 ذهبية في مقابل 22 للاتحاد السوفياتي و16 للمجر.
وسيطر الأميركيون على ألعاب القوى والسّباحة، وضربت “القاطرة البشرية” التشيكوسلوفاكية العداء أميل زاتوبيك بقوة، ففاز بذهبيات سباقي 5 و10 ألاف م والماراثون.
أما حصيلة المشاركة العربية فكانت إحراز اللبناني زكريا شهاب فضية المصارعة اليونانية الرومانية لوزن الديك، ومواطنه خليل طه برونزية المسابقة لوزن الوسط، والمصري عبد العال راشد برونزية المسابقة لوزن الريشة.
بلانكرز تغادر بالدموع
أما نجمة ألعاب لندن 1948، الهولندية فاني بلانكرز كون صاحبة الذهبيات الأربع، فتعثرت في سباق 80 م حواجز وغادرت بالدموع، لكنها ظلت شاهدة على العصر الرياضي الجديد وتطوّراته المتسارعة حتى وفاتها في كانون الثاني (يناير) 2004 عن 85 عاماً، في حين “قبضت” السوفياتية ماريا غوروخوفسكايا على مسابقات الجمباز فأحرزت ذهبيتين وخمس فضيات، وهو إنجاز غير مألوف حتى تاريخه.
وباتت الفارسة الدنماركية ليز هارتل المصابة بالشلل في ساقها أوّل امرأة تشارك مع الرجال في مسابقة واحدة، إذ نافست في مسابقة الترويض وحلّت ثانية.
وفي سباق 400 م حرة سباحة، كان الاميركي من جزر هاواي فورد كونو والسويدي بيراولاف أوستراند مرشحَين فوق العادة، لكن الفرنسي جان بواتو حقق المفاجأة “السعيدة” اذ وعده والده بتزويجه من فتاة أحلامه إذا ما فاز في هلسنكي، وكان لهذا الرهان مفعول السحر مسجلاً 4:30.7 دقائق، ومن شدّة تأثره قفز والده بكامل ثيابه في الحوض لتهنئته.
وعند “فلفشة” أوراق دورة هلسنكي، لا بد من الحديث عن سباق 5 آلاف متر، الذي يعتبره مراقبون كثر السباق الأفضل على هذه المسافة في تاريخ الألعاب، وهو مواجهة جمعت “قاطرة العصر” زاتوبيك والفرنسي ألان ميمون، والبلجيكي غاستون ريف قاهر زاتوبيك في سباق دورة لندن، والإنكليزي الخطر كريستوفر شاتاواي والألماني هيربرت شاد.
يتذكّر ميمون السباق ويصفه بالمعركة المفتوحة “كل منّا كان يبذل طاقته ويتقدّم ليتصدّر حين تسنح له الفرصة، وليس كما يحصل حالياً حيث يتلطّى العداؤون خلف “الأرنب” في المقدمة ويتحيّنون الفرصة للانقضاض بواسطة السبرينت في الأمتار الأخيرة”.
ويضيف “بداية، تصدّر الإنكليزي غوردون بيري ثم زاتوبيك بعدما تجاوز ريف وشاد، وحاولت قدر الامكان أن أبقى قريبا منه طمعاً في ميدالية أولمبية ثانية. رأيته في منتصف السباق وقد فتح فمه ومدّ لسانه وتدلّت رقبته وهي العلامات التي تشير إلى وهنه المتصاعد بينما يكون في كامل قوته. وفي اللفة الأخيرة كان لا يزال في الصدارة، وكلّ منا يراقب الآخر ليدركه في السرعة النهائية، أعتقد انني ارتكبت خطأً كبيراً بعدم المبادرة إلى ذلك إذ لربما كنت أنا الفائز، وتردّدت حين لاحظت اقتراب شاد خلفي. كان ريف أصبح بعيداً قليلاً وشاتاواي خلفنا.
لم ينتظر زاتوبيك طويلاً فشن هجومه في المئتي متر الأخيرة. وعند المنعطف الأخير تعثر شاتاواي ووقع ارضاً واستلحق نفسه بحلوله خامساً، في حين كان زاتوبيك يمضي إلى حصد الذهبية التي أهدرها في دورة لندن، وبقيت خلفه حتى النهاية”.
سجّل زاتوبيك 14:06.6 دقيقة وميمون 14:07.4 د وشاد 14:08.6 د، لكن سقوط شاتاواي جعل منه نجماً، علما أنه اعترف لزملائه بعدها انه كان تعباً جداً ولم يقوَ على المثابرة حتى النهاية.
دوران الدولاب
وبعد عودته الى بريطانيا حُظي بفضل “حظه العاثر” بشعبية كبيرة ما أسهم في انتخابه نائباً ثم تعيينه وزيراً. وعن السباق المثير يقول
“أسفت كثيراً لما حصل لكن عزائي الوحيد إني بذلت جهدي وحاولت قدر المستطاع”.
واحتفظ زاتوبيك بعدها بلقبه في سباق 10 ألاف م معززاً رقمه الاولمبي (29:17.00 د) وتلاه الفرنسي ميمون.
قرّر خوض الماراثون للمرة الأولى من أجل تثبيت هيمنته أكثر فأكثر، وفي منتصف السباق، ظهر في المقدمة السويدي غوستاف يانسون لكن لفترة قصيرة، إذ تفاعل زاتوبيك سريعاً مع الأمر وأخذ زمام المبادرة ليقود الصدارة وحيداً وبعيداً في ما يشبه المهرجان والاستعراض الخاص، وكأنه يخوض سباق 10 ألاف متر واجتاز خط النهاية مسجلاً 2:23:03.2 ساعتين وبفارق نحو دقيقتين عن الثاني الأرجنتيني رينالدو غورنو، وجاء يانسون ثالثاً.
دخل زاتوبيك الاستاد وركض أمام مدرجات مكتظة بحشود هتفت بصوت واحد باسمه، وكان احتفال “القاطرة” مزدوجاً، إذ أحرزت زوجته دانا انغروفا زاتوبيكوفا في الوقت عينه ذهبية رمي الرمح (50.47 م)، وهما ببساطة متناهية حصدا لتشيكوسلوفاكيا أربع ذهبيات.
رُقّي زاتوبيك إلى رتبة نقيب في الجيش، ولاحقاً رُفّع إلى رتبة عقيد وشغل منصب مدرب المنتخب، ثم جرد من كل شيء وكاد أن يصبح نكرة بعدما حرم من مميزات الإنجاز إذ دفع ثمناً غالياً لشجاعته ودعمه للحرية ووطنيته في أحداث “ربيع براغ” عام 1968.
دار دولاب زاتوبيك “سنوات” إلى الخلف لكنه ظل شجاعاً متفائلاً محباً للحياة، “نُفيَ” بعيداً من زوجته يعمل حفاراً للآبار ولا يتمكن من رؤيتها الاّ مرة كل أسبوعين، لكن عزاءه ومتنفسه الوحيدين بقيا في أن عمله في الهواء الطلق وسط الغابات والريف.
انتابه الحزن لأنه لم يعد في مقدوره الاعتناء بالحديقة الصغيرة بجوار منزله إلى أن “رُضي عنه” بعد سنوات فنقل للعمل في قسم التوثيق في اللجنة الأولمبية في براغ، واعترف انه بات من الرياضيين القدامى أصحاب الشهرة “لكني لم أتقاعد من العمل وأنا مستعد دائماً للمساعدة في أي موقع لأبقى مفيداً”.
ويتذكّر انه طمح دائماً لتقديم الأفضل وتحقيق الإنجازات “لكن ذلك تطلّب كداً وتعباً وتدريباً يومياً مكثفاً لتحطيم الأرقام وإحراز الألقاب، تماماً كالاشغال الشاقة، لكني كنت أستمتع بها”.