في عالم الفن، كثيرًا ما تتداخل الحدود بين العبقرية والعبثية، بين الإبداع والتحدي، وبين القيمة الحقيقية والقيمة الرمزية. ولعل أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو العمل الفني الشهير “الكوميدي” للفنان الإيطالي ماوريزيو كاتيلان، الذي بدأ كتركيب بسيط لموزة مثبتة بشريط لاصق على الحائط، لكنه انتهى ببيع أحد إصداراته مقابل 6.24 مليون دولار في مزاد نظمته دار سوزبيز بنيويورك في عام 2024.
القصة وراء “الكوميدي”
ظهر هذا العمل لأول مرة في عام 2019 خلال معرض آرت بازل ميامي بيتش، حيث عرضته صالة عرض بيرّوتين (Perrotin) الفرنسية بسعر 120 ألف دولار. كانت الفكرة بسيطة جدًا: موزة حقيقية اشتُريت من متجر بقالة في ميامي وثُبّتت على الحائط بشريط لاصق. ومع ذلك، نجح العمل في إثارة ضجة كبيرة في الأوساط الفنية والإعلامية، حيث انقسم الناس بين من اعتبره عملًا عبقريًا ومن رآه مجرد مزحة مكلفة.
لكن ما يميز “الكوميدي” ليس الموزة أو الشريط اللاصق نفسه، بل المفهوم الفني الذي يحمله. فقد كان العمل انعكاسًا للأسئلة الفلسفية حول معنى الفن، وقيمته، ومدى ارتباطه بالسياق الثقافي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن المواد الفعلية التي يتكون منها العمل قابلة للاستبدال، إلا أن ما يجعل “الكوميدي” فنًا هو الفكرة نفسها، وليس الموزة بحد ذاتها.
من 120 ألف دولار إلى 6.24 مليون دولار
في مزاد سوزبيز الأخير، تجاوز العمل التقديرات الأولية التي تراوحت بين مليون و1.5 مليون دولار، ليصل سعره إلى 6.24 مليون دولار بعد مزايدات حماسية. وكان الفائز بالمزاد هو رجل الأعمال الصيني جاستن صن، مؤسس منصة للعملات المشفرة. وفي تصريح له، وصف صن العمل بأنه “أكثر من مجرد قطعة فنية، بل هو ظاهرة ثقافية تربط بين الفن والميمات والعملات المشفرة”.
جدل مستمر وأداء فني غير متوقع
أثار “الكوميدي” نقاشًا حادًا حول ماهية الفن، وهو جدل يعود تاريخه إلى القرن العشرين مع أعمال مارسيل دوشان، مثل “النافورة”، التي كانت عبارة عن مبولة عادية عُرضت كعمل فني. اعتبر البعض أن عمل كاتيلان امتداد لهذا التقليد المفاهيمي، بينما رآه آخرون مجرد مزحة مكلفة لا تستحق الضجة.
لكن الجدل لم يتوقف عند النقاشات النظرية، بل تجسد في حدث غير متوقع خلال عرض العمل في ميامي عام 2019. إذ قام الفنان ديفيد داتونابانتزاع الموزة من الحائط أمام الحضور وقام بتناولها، واصفًا فعلته بأنها “أداء فني” وليس تخريبًا.
وفي عام 2023، تكرر المشهد في متحف ليوم للفنون في سيؤول، عندما قام طالب فنون من جامعة سيؤول الوطنية بأكل الموزة المعلقة، وبرر ذلك بأنه كان “جائعًا”. ورغم ذلك، لم يُعتبر الحدث تخريبًا، بل تم استبدال الموزة بسهولة بموزة جديدة.
الفن بين القيمة الرمزية والتجارية
إن بيع “الكوميدي” بمبلغ 6.24 مليون دولار يطرح سؤالًا جوهريًا: ما الذي يجعل العمل الفني ذا قيمة؟ هل هو المواد التي يتكون منها، أم التفسير الفلسفي الذي يحمله، أم الشهرة التي يكتسبها؟
يعتقد بعض النقاد أن القيمة الحقيقية للعمل تكمن في النقاش الذي يثيره، أكثر من كونه كيانًا ماديًا. بينما يرى آخرون أن مثل هذه الأعمال تكشف عن سوق الفن الحديث بوصفه سوقًا قائمًا على الندرة والرمزية أكثر من الجوهر المادي.